أرشيف المدونة الإلكترونية

الشلوخ في أغنية الحقيبة




الشلوخ عادة سودانية تمارس منذ القدم عند الرجال والنساء سواسية .. وهى في بدايتها كانت ترمز للانتماء القبلي والطائفي وممارستها وانتشارها في ذلك الوقت جعل منها علامة جمالية أبدع البعض في أشكالها ورسومها لتصبح ميزة تزين المظهر وتضيف للفتاة رونقا وجمالا ، وتميز أفراد كل قبيلة عن الأخرى ، وأيضا كانت علاج لبعض الأمراض كالصداع وأمراض العيون . ولقد أصبحت ثقافة رسخت في الأذهان وارتبطت بالجمال في ذلك الوقت وحتى الان نجد الكبار في السن يعجبون بالنساء المشلخات بالرغم من محدودية وجودها وتغير مفهومها الجمالي إلى العكس حيث صارت تشويها للوجه .
والشلوخ هي جمع شلخ وقد يجمع أحيانا شلاخ ، والشلخ في اللغة هو الأصل والعرق ونجل الرجل اى ولده ، وشلخه بالسيف اى قطعه به وشلخ الزرع قطع بعض فروعه لينمو أكثر وشلخ النخل اى أزال عنه الشوك (انظر عون الشريف قاسم قاموس اللهجة العامية في السودان ) .أما اصطلاحا فهي تلك الخطوط المميزة التي ترسم على الوجوه بآلة حادة كالموسى حيث يتم فصد أو جرح الخدود بشكل معين ومعروف ومتفق عليه ليلتئم الجرح مخلفا وراءه آثرا دائما لهذا الشكل ، ويمكن ان نقول هي آثار الجروح والفصود المرسومة على الخدود ، أو هي عملية أحداث جروح وندوب على الوجه . والتشليخ عملية مؤلمة تستعمل فيها أدوات بدائية غير معقمة وتستعمل لأكثر من شخص في وقت واحد مما يعرض الكثير منهم للالتهابات والأمراض المعدية والتي تنتقل عن طريق الدم مثل التهاب الكبد الوبائي ، وبعد القيام بالتشليخ يوسع الجرح وتوضع عليه بعض الأعشاب أو القطن المبلل بالمحلبية والقطران وفى بعض الأحيان الكحل ،السكن، الودك أو روث البهائم ، وهذه الأشياء قد تزيد الألم وقد يصاب الشخص بالحمى وارتفاع درجة الحرارة .

أما الفصود فهي اصغر من الشلوخ ، والفصاده دائما ما تعمل لعلاج بعض الأمراض ، ففي بعض الأحيان يفصد الطفل حول السرة لعلاج آلام البطن أو يفصد المرضى في أجزاء من الجسم لإخراج الدم الفاسد ، وكثيرا ما نلاحظ فصدتين عند الأصداغ (المداغات) وهذه تعمل لعلاج بعض أمراض العيون كالرمد مثلا عند الأطفال ولكنها قد تشب مع الطفل خاصة إذا كانت الفصدة عميقة وعريضة ... ولقد يسمى البعض درب الطير أو النقرابى بالفصده وهذه تُعمل على الخدود وغالبا ما تكون لميزه جمالية ، قال الشاعر إسماعيل خورشيد في أغنية يا بهجة حياتي والتي يتغنى بها الفنان التاج مصطفى ..


حبيب لي من شوفتو مده .... حبيبي نسى الموده
اخضر زرعي لونو ..... حبيب في خديدو فصده

أما ود الرضي فلقد سمى الشلوخ فصودا قائلا في أغنية متى مزاري ...

شعرك اسود زى حظ حسودك ...... نور تضاحك بدرك فصودك
كم غضنفر فاتكابو سُودك ........ والمها تهواك يا خشيف

وقال أيضا .....

عامت الفخّه ..... تفجع الوزّه
وداهية في اللخه
تنطوى بّرصه ......تعلى تتمخى
والفصيدة تقول .... للزُمام إخّ

اللخه هي عجين القمح ( اللخوخه) وتستعمله النساء للدلك ( العرك) ... انظر ديوان ود الرضي صفحة 211 .

اما الوسم فاغلب الأحيان يستعمل للحيوانات وهو اثر الكي بالنار على جسم الحيوان حيث يسخن عمود من الحديد عليه شكل معين ويكوى به الحيوان . ولقد اتخذ كل إنسان وسما لدوابه ليصير علامة مميزة لها تعرف بها وتحافظ عليها من السرقة والنهب ...
بعض شعراء الحقيبة أطلق على بعض الشلوخ الصغيرة لقب وسم قال ابوصلاح في أغنية فريع البانه ...

نار قلبي بتوقد من وسمه ... تلمع في خديده والفر بسمه
الفم الزى خاتم نص قسمه ... يا الماك داريابى والغى قسمه

وقال أيضا مسميا الشلخ بالوسم ....

هاك وصفو وخلّى الاسم ...... سندس اخضر ولون الجسم
في خديدو يلالى الوسم ....... والكون ينور حين يبتسم

أما ود الرضي فقد قال في أغنية يلوحن لي حماماتن ...

تبق النور وسيماتن .... تضوى العتمه بسماتن
حبيب اشتقنا نسماتن .... حليل ديلاك رشيماتن
عملية التشليخ يقوم بها البصير أو المزين أو بعض المتخصصين من الرجال والنساء وتجرى دائما في سن مبكرة دون الخامسة عشر، وتجرى للرجال فى بعض الاحيان دون الخامسه وللنساء بعد ذلك العمر حتى يمتلئ الوجه وتكتنز الخدود لتسهل عملية رسم الشلوخ بشكل جميل .
ولقد ذكر ود الرضي اسم إحدى الشلاخات وهى بت أرباب في أغنيته المشهورة يا مولاي زوجة قائلا ...

يات من كان حدقلو اسم بقت العباره جسيمه
سميناها آمنه إن شاء الله حاقه أسيمه
بت أرباب تحضر لو وتختو وسيمه
قبل المايقين يلمع كأنو قسيمه


الأبيات التي أتحفتنا بها وهى للشاعر ابوصلاح في أغنية يا من فاح طيب رياه .. حيث استعمل صيغة التصغير للشلخ (الشليخ) واغلب الظن لجمال الشلخ حيث استعمل نفس صيغة التصغير للخد قائلا الخديد...

في الطبعة الأخيرة لديوان ابوصلاح صفحة 8 استبدل الناشر كلمة الشليخ بالخديد ليقرأ البيت ...
بدر التم الفاق في عُلاهو .... النجوم ما نارت لولاهو
غرامك كيف أحيا بلاهو .... الخديد لحسنك جلاهو
في خديدك ما احلاهو
وأتمنى أن يكون خطأ مطبعي وليس مقصودا حيث يلجأ البعض لتغير بعض كلمات الاغانى بكلمات تناسب العصر كما حدث في أغنية أنا ما معيون للشاعر سيد عبدالعزيزحيث استبدل بعض الفنانين كلمة الشلوخ بالخدود في البيت أدناه ...

مالي إذ أصبح مهيون....... لملكة جنوده شلوخ وعيون
لحاظه تخيف قايد المليون .... وترهب عنتر ونابليون

ولكن في ديوان ابوصلاح القديم والذي نشرته وزارة الثقافة والأعلام كانت الرواية صحيحة وهى ...

بدر التم الفاق في عُلاهو .... النجوم ما نارت لولاهو
غرامك كيف أحيا بلاهو .... الشليخ لحسنك جلاهو
في خديدك ما احلاهو
والشلوخ عرفها السودان منذ القدم وخاصة في بلاد النوبة منذ العهد المروى ( 750 ق.م ـــ 350 ق.م ) إذ اكتشف علماء الآثار بعض التماثيل والنقوش لأشخاص مشلخين ترجع إلى ذلك العصر (المصدر ـــــ يوسف فضل حسن ... الشلوخ أصلها ووظيفتها في السودان ص 24 ) ولقد ذكر البروفيسور يوسف فضل حسن إن العرب عند بدء هجرتهم الطويلة إلى السودان التي استمرت منذ أواسط القرن السابع الميلادي حتى بلغت ذروتها في أواسط القرن الرابع عشر وجدوا إن عملية الشلوخ شائعة بين سكان المنطقة النيلية الواقعة شمال الخرطوم ، ومنهم انتقلت تدريجيا إلى العرب الوافدين بعد أن طوروها واكسبوها مفهوما جديدا فيما أرجح .(المصدر السابق ص 45)... وهذا يدل على أن الشلوخ عادة افريقية اكتسبتها القبائل العربية عند هجرتها إلى السودان وأصبحت سمة تميزهم عن غيرهم ... ومما شجعهم على هذه الفكرة وتبنيها إن بعض أحفاد هولاء المهاجرين ذوى بشرة تميل إلى السواد مما يعرضهم للرق من جراء الغارات التي شنها تجار الرقيق وغيرهم أحيانا دون تمييز، ثم إن هذه الشلوخ تمكن كل قبيلة من التعرف على أفرادها في ساحات الحرب التي كانت تكثر في تلك العهود لذلك اتخذوا الشلوخ حماية لهم .(المصدر السابق ص46). ويقول البروفيسور يوسف فضل حسن إن تلك الشلوخ انتقلت إلى أبناء العرب عن طريق أمهاتهم النوبيات وعللّ ذلك إلى قوة الثقافة النوبية لدى السكان الأصليين وشدة تمسكهم بها ، وقد فرضت هذه الثقافة نفسها على العرب الوافدين في أكثر من مظهر مثل المشاط والذي كان سائدا في تلك المنطقة منذ عهود سحيقة ، ويواصل البروفيسور يوسف فضل بان العرب قد طوروا تلك الفصدات التي على خدود النوبيين واتخذوها سمة أو وسما وهم الذين أطلقوا على هذه العلامات لفظ شلخ أو شلوخ للدلالة على الأصل أو العرق وهو ما قصد هولاء العرب إثباته وتأكيده في مجتمعهم الجديد . ولقد توصل البروفيسور يوسف فضل حسن على إن الشلوخ نوبية أو سودانية أصلا وشكلا وعربية دلاله إذ هي وسم أو رمز لقبيلة دون أخرى (المصدر السابق ص 47) .. واني اختلف في هذه الجزئية مع البروفيسور يوسف فضل حسن حيث إن بعض القبائل في جنوب السودان أو في دارفور لها شلوخها أو فصودها الخاصة بها وتميز كل قبيلة عن الأخرى وهذه القبائل لم تختلط بالعرب في ذلك الوقت عرقيا أو ثقافيا مما يدل على أن مفهومها القبلي كان سودانيا خالصا أيضا واكتسب العرب الشكل والدلالة مع تطويرهم للرسومات لتضيف علامة جمالية.


دكتور أحمد القرشي






TAG

عن الكاتب :

ليست هناك تعليقات

إرسال تعليق

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *