أرشيف المدونة الإلكترونية

الهمباتة

 



 

 

 

الهمباتة .. العدآلة الإجتماعية وإعادة تقسيم الثروة






الهمبتة ظاهرة إجتماعية على غرآر ظاهرة الشعراء الصعاليك التي عرفتها جزيرة العرب قبل الإسلام ، وقد إنتشرت الهمبتة في السودان خلال العهود الإستعمارية التركية والانجليزية ، وجاءت في أعقاب الحروب التي كانت تنشب بين القبائل أوآخر عهود السلطنة الزرقاء وزاد من بروز الظاهرة الجهل بالقيم الدينية وضعف الوآعز الديني وأنحسرت الظاهرة بعد إستقلال السودان ، وتلآشت بعد أن خلفت إرثاً أدبياً فريداً.
والهمبتة تعنى نهب وسلب الإبل وكانت تُعتبر من أرفع ضروب الفروسية ، وكانت حياة الهمباتة على غرآر حياة أسلافهم من الشعراء الصعاليك في الجاهلية عروة بن الورد والسليك بن سلكة وأضرآبهم مع إختلاف جوهري رئيس هو أن غالبية أسلافهم كانوا لا يتورعون عن سلب الضعفاء والحريم بل وسبيهم وإسترقاقهم ، فيما يتصف الهمباتي بصفات الفارس النبيل الكريم .
وعن أصل الهمبتة ونشأتها يقول الراحل الدكتور شرف الدين الأمين عبد السلام رئيس شعبة الفلكلور بمعهد الدرآسات الإفريقية والآسيوية بجامعة الخرطوم سابقاً "إن بدآيتها كانت في أوآخر عهد السلطنة الزرقاء وما بعدها في القرن الماضي إثر ضعف الدولة المركزية ، وضعف الوآعز الديني نتيجةً للجهل الذي ضرب أطنابه على المُجتمع بسبب سياسة التجهيل التي طبقها الحُكم التركي ، حيث رآحت القبائل تُغيرُ على بعضها تسلُب وتنهب ، وكان هذا العهد يُسمى عهد "القيمانوبعد سقوط السلطنة الإسلامية الزرقاء على يد الأترآك العثمانيين وقيام سُلطة مركزية إنحسرت ظاهرة "القيمانوتقلصت وأصبحت تتم بعدد من الرجال يترآوح بين المئة والمئتين ، وكانوا يُسمون "النُهاضوفي عهد الحكم الثنائي الإنجليزي المصري مطلع القرن الماضي توآصلت ولكن بعدد قليل من الرجال يتراوح بين الإثنين والثمانية ، وبعد الإستقلال من الإستعمار وأستقرآر الغالبية من العرب الرُحل وأنتشار الوعي الديني والتعليم إندثرت هذه الظاهرة إلا من بعض الحوادث الفردية في أقاصي البوادي .

يتكون مُجتمع الهمباتة من فئتين :

الهمباتة الذين يقومون بنهب الإبل .
و"العملاالذين يقومون ببيع الإبل المنهوبة .

ومن أشهر الهمباتة الذين تتردد أسماؤهم :

" الطيب عبدالقادر سليمان المعروف "بود ضحوية" من قبيلة الجعليين ، ورفيقه طه محمد أبو زيد البطحاني المعروف ب" طه الضرير" ومن نفس القبيلتين الصديق ود عثمان ود التركاوي المعروف بأب ترمة وعلي أحمد علي ، وكيقة ودعمران والخضر ودفكاك ، وعثمان ود علي الشهير ب "ترتر" ومدني محمد عويضة والعطا ود حليلآت ومن الكواهلة برز محمود ود آدم ، عبدالله ود المقدم ، و شرف ود المجرب ، محمد ود عايس ، وأبو حبيب أبوزيد ، وحامد أمبده ، وعبدالله حريكهو ، وعوض الكريم محمد إبرآهيم ، وموسى ودكوكو وغيرهم " .
والهمباتي طبيعته شاعرية وبعضهم شاعر مجيد يقول ود ضحوية :


الدرب البجيب كمش النقـود موهين
وما بمشيهو ديك بيتو أب جليداً لين
الولد البيـــــــقوم من أم حمد مُتدين
غصــباً عنو يا الساحر يسوقن بين


يُخاطب جمله الساحر قائلاً إن الطريق الذي يجيء بالنقود الكثيرة يجيب كمش النقود ليس هيناً ولا سهلاً ، ولا يمشي فيه من يُلآزم بيته مثل الديك صاحب الجلد اللين الناعم .. ولكن الصنديد الذي يقوم بعد أن يستدين من الغانية "أُم حمد" فلا بد له أيُها الساحر من أن يسوق الإبل إقتدآراً وعياناً بياناً .. ويقول آخر مُخاطباً ناقته :


الليلة أُم هــــلال أمست سُـــــرآتك تارة
وأسايدك سوآويق لي الردوف والـدآره
إن بردن نكافيبن ســــوآلف الســــــارة
وإن حـــــــــرن صناديداً نقابل الحـــاره


فهو يقول لناقته أُم هلال إن سنامك قد رجعت للورآء "ترت" من طول الركوب ، وإن أسيادك يعرفون قود سوآويق الإبل مُمتلئة الأرداف ، وتلك الحُبلى الداره فإذا ما خلصن بردن نكافئ بهن أفضال وديون سوآلف الغانية المُسماة السارة أما إذا تطلب الأمر القتال فاننا صناديد في المعارك الحارة .
والهمباتي وفي لرفاقه سمع ود ضحوية أن رفيقه طه الضرير قد حُكِم عليه بالسجن فقال :


الليلة النّفس أمسَت حزينة وعامـدة
وما بَتْسلّى بي بُرقُع حميده وحامـدة
فارْقَنا أبان قلــــــــــوبا جامــــــــــدة
ناس طه اللّحو ضو القبيله الخامـدة


يقول إن نفسه أمست حزينةً ومنقبضةً ولاتُسليه مجالسه الغيد الحسان ولا براقع حميدة وحامدة بعد أن فارق رفاقه الرباعة أصحاب القلوب الشُجاعة ، وخاصةً طه الذي يشبه الأسد اللحو ضوء القبيلة التي تخمد نارها .
والهمباتي لا يأتي مُتلصصاً في الخفاء ، وإنما يحصُل على غنيمته جهاراً نهاراً عنوةً وإقتداراً . والهمباتة يعزفون عن الإبل الهاملة ولا يسلبون إلا الإبل المحمية :

الزول البـدور من البوادي ضــــريبة
يبقى موآرك الغــــــربه ويبعد الريبة
ما بتدبى لي الهاملة البشـوفا غريبة
إلا السيدا في الدنـدر مسـيلها زريبه


فالشحص الذي يريد من البوادي فرصة عليه أن يداوم «يوارك» على الغربة ويبعد ريبته عن القبيلة والجار والعشير ، إنه لا يتلصص ويسرق الناقة الهاملة التي يرآها غريبة ولا ينهب إلا الإبل المحمية التي أقام لها أصحابها الحظائر في بادية الدندر .
والهمباتي لا ينهب من قبيلته ولا من الجار والعشير :


الولـــد البدور الشــــــكره يابا الشــينه
يبعد ردو غادى .. ينطح بــوادي جهينة
أما نجيب فلوســــاً تبســــــــط الراجينا
وإلا أم روبة لاحولين تكـــــوفتو علينا

 

عندما أفاق الطيب ود ضحوية (1) من تلك الرؤى والأطياف قرر أن يسافر من كبوشية إلى القضارف حيثُ يرزح تحت وطأة قيده في سجنها صديقه طه الضرير .
قرر أن يُسافر بعد أن أخذته تباريح الشوق إليه كل مأخذ ، فشد رحله صوب القضارف على متن جمله "العاتي" يرفعه آلٌ ويخفضه آلٌ وتلفظه بيدٌ إلى بيد ، وعقيرته ترتفع بالنميم فتملأ نفسه شجواً وشجناً ، والعاتي يطربه النغم فتزدآدُ سرعته وتتباعد خطاه فتخبو من خلفه أضواء كبوشية ، والطريق يمتد أمامه طويلاً ،
 ويترنم ود ضحوية بقول رفيقهم الشاعر الفحل يوسف ود عاب شبيش :


الدَرِبْ إنْشَـحطْ واللُّوسْ جِبالُو إتْنَاطَنْ

(2)

والبَنْدَّرْ فَوانيسُـــــــــو البيَوقدَّتْ مَاتَنْ



يا فَرُوجْ هَضَالِيمْ الخَـــــــلا البنِجَاطَن

(3)

اَّسِرعْ قَوبِعْ أَمسـيتْ والموآعيدْ فَاتَنْ

(4)

وتستمر رحلة الطيب ليتصل نهارها بليلها وهو لا يني ينشد ما يجول بخاطره من أشعار ، وعندما يُردد أشعار صديقه طه يحس وكأنه يتذوق فاكهةً إِستوائيةً معسولة اللُّبْ :


اللَّيلْ بَوبَا والكُـــــــرْتْ الرَحِيحْ وَالَنٌّو

(5)

رَكَزَنْ فَوقْ ضُرَاعِنْ والهَنيسْ غَزَنُّو

(6)

الجَبلْ أَبْ قُــرودْ يا امْ عَارضْ إِتْعَدَنُّو

(7)

الموتْ عِـــــزَة واللَومْ ليَنَا ما بْرضَّنو



وأخذ الطيب في رحلته هذه يسأل نفسه كيف تسنى القبض على صديقه ، ذلك الأسد الهصور الذي يهابه الجميع ، ولا يستطيع كائناً من كان أن يقترب منه ليمسه بسوء ، أليس هو القائل :


منْ شَندِي إِســــــــــتعدينَا ومَرَقْنَا خَلاَسْ



طِرَي المريُودَه وأدَّرْدَقْ عَليهَا أَبْ رَاصْ

(8)

كَان نِتْلاقى في فَنَقَه وضَـــــربْ رَصَاصْ

(9)

ما بْجيِبَُونَا نَاسْ طَرْطُورْ مَعْ الَقَصَّـــاصْ

(10)

إ
نتهت رحلة الطيب وأناخ بجوار السجن ، وطلب السماح له بزيارة صديقه طه ، فجاءوا به إليه والأغلآل تلتفُ على جسده البادن القوي ويديه المفرودتين كجناحي نسر . وما أن رأى الطيب طار إليه بعناق عنيف كأنه إرتضام إرتج له قلب حارسه ثم أخذا يرتاحان من أشوآقهما على ذكرياتهما الثرية .
وأُنسهما الجميل وعندما سأل الطيب طه عن كيفية القبض عليه أطلق آةً ملؤها الحسرة وقال :
هؤلاء الإنجليز الأنجاس أعلنوا عن جائزة مقدارها خمسون جنيهاً لمن يدُلُ عليَّ ، وكما تعلم يا صديقي أن الناس فينا إثنان منهم من يُحبُنا ويوقرنا ومنهم من يهابُنا ويخشانا ، لذا لم يؤد الإعلان عن الجائزة غرضه ، غير أني يا صديقي وقعتُ في هوى حسناء من عرب هذه الناحية 
تشبه تلك التي قال عنها صديقنا الفنجري :


عُودِكْ حَكَّمُو البَاري الجَمِيلة صِــنعْتُو
خَتّهَ ورَسَمَا بيْ قالباً عَدِيلـه شَـــمِعَتُو
عُنقاً زيْ حَرَاريبْ البُطَـــــــانَة فَدَعتُو
بصْبُرْ عَاشقُو كَيفْ مَا دَام جَهَنَمْ تِحتْو



وكان لهذه الحسناء مُحب أعماه الغضب ، وأكلته الغيرة ، فوشى بي وتم القبضُ عليَّ غدراً ، وبوآسطة قوةٍ كبيرةٍ وأنا نائم . وعندما أخذوني إلى هذا السجن وجدتُ صديقنا الفنجري يقضي فيه عقوبة ، فسألني ذات السؤال فقلت له :


رُقَــــــــادْ السِــــجِنْ وتِقِفِـــــــلْ الأَوضَـــــاتْ

(11)

سِمِعْ فَيْ الفَايْحَة وآحدين في العَربْ شُمَّاتْ

(12)

مَكَتَـــوبةْ الجَبِينْ هِي بالصِــــــــحْ مَا بِتِنْفَاتْ
لَزُوم للحــــادَة والمِحــــنْ البِجَنَْ ضَـــــيفَاتْ


فردَّ عليَّ قائلاً :


شَيلْ المِحْنَه يا امْ فُرْقُدْ عَليهو شُدَادْ

(13)

والسَـفرْ أبْ مِسَاويكاً حَجَر غَيرْ زَادْ

(14)
ا

لعَطَــا مِن عَــدَم نَدي ونقول مَا عَادْ

(15)

والصَـــبُرْ عَلي الكايْنَاتْ بَلا مَيعَــــادْ

(16)

فأثار ما قاله طه شهية الطيب فأخذ يُساجله بأشعار الفتوة والحماسة ، فتخلقْ من كان حاضراً حولهما وهم يطلقون آهات وصرخات الإعجاب ، غير أن الطيب أخذ ينتبه إلى أن الوقت المُحدد للزيارة يسيرُ إلى أنتهاء ، فسأل صديقه عن أحوآله فرد عليه بمربع شعري قال فيه :


اللَّيلَة الغَــــرَامْ لَمَلَـــمْ جَمَاعْـــتُو مَحَقَّقْ

(17)

وأصْبَحْ جلْــــدِي مِن القرَّه كُلُـــو مَشقَّقْ

(18)

فَارَقْ مَسَّةْ القَـــــرْنَ المُشَــــاطُو مَدَقق

(19)

وقَايْلَه وبَايتَه يا أب شخلوبْ بَدين تِتبقق

(20)

فغشت الطيب سحائب من الحزن والأسى لم تنقشع إلا عندما قال له طه إن المحكمة الأعلى خففت عقوبة السجن لتصبح عامين من تاريخ القبض عليه ولكنها أبقت على عقوبة الغرآمة .
ثم أقلقتهما إشارة الحارس الدآلة على إنتهاء ما هو محدد من وقت للزيارة . فهب الطيب لوداع صديقه ، وقبل أن يُغادر قال له :
سأكون كما كنت أميناً ورآعياً لأُسرتك حتى يُفرج عنك ، وسأعمل في الوقت المناسب لتوفير مبلغ الغرآمة لتعود إلينا سالماً وقوياً كما كنت .
تعاقبت الأيام ومرت الشهور والطيب على عهده وتعهده أميناً وراعياً لأسرة صديقه طه ، وعندما شارفت العقوبة على الإنتهاء قام الطيب بتوجيه نداء لقريب له يُدعى (القاضي) ونفرٌ من الهمباتة ممن يثق في ولائهم وكفاءتهم وأتجه بهم صوب الحدود الحبشية بعد أن إتفق معهم على نهب أكبر عدد من الإبل التي تمتلكها قبائل الأحباش وهو يذكرهم بأن هذه العملية هي الأهم بالنسبة إليه فالنساء في إنتظار الجميع والضرير في إنتظار أن تُدفع الغرآمة المحكوم بها عليه فلا مجال للتقاعُس أو التهاون.
بدأت العملية ونجحت المجموعة في إقتياد عدد كبير من الإبل وتخطت بها الحدود من جهة مدينة تسني
 ، والطيب يتقدم الركب وقد إعترته نشوةً غامرةً وهو يخاطب جملة بأشعار صديقه طه فقال له فيما قال:


الدَرِبْ رَاحْ عَلَيكْ لا تْقَادِي رَاسَكْ يلُوجْ



أَمْسَكْ نَجَمْهْ يَا صَــــــقُرْ الخـلا العَبْلُوجْ

(21)

مَا دَامْ أَمسَى لَيلَكْ بالشـــرقْ والهَـــوجْ



أَخْبِتْ اللُّجَه بيْ قُرَانَكْ أقعْ في المـــوَجْ

(22)

بدأ القوم يتوغلون في مسير شاق وهم يقودون غنيمتهم الكبيرة ، فأرادوا الراحة ، فحطوا بوادٍ ، غير أنهم شعروا أن عدد ما نهبوه من الإبل كبير وقد يعوقهم في المسير فيسهُل تعقبهم عن طريق الفزع ، فبرز بينهم رأي على ترك نصف الإبل وموآصلة السير بالنصف الآخر ، بيد أنهم كانوا يخشون عدم موآفقة زعيمهم الطيب على هذا الرأي لأنهم يعلمون أنه لن يتنازل عن أي جزء من الغنمية ويعتبِرُ ذلك عيباًَ في عُرف الهبماتة .
ولما كان الطيب قوي الشخصية مُهاب الجانب آثر القوم أن يحاولوا إقناعه برأيهم عن طريق قريبه (القاضي) ولكن مسعاهم خاب حينما رفض الطيب رأيهم رفضاً قاطعاً وقال للقاضي إن كنتم تخشون الفزع فاني لا أخشاه وقل لرفاقك ألم تتعلموا من قول عمكم طه الضرير حينما قال :


كَمْ شَــقيتْ فَوَافي وهَافي قَالِبْ لَــــوني

(23)

ببعِدْ ردِي مِنْ نَاسْ سَاحِتي لا يْلُومُوني

(24)

كمْ بَارَيتَ جَنيناً في الخَـــــلا بشوروني

(25)

كُرآعي تَقيلَه بَحَـرِتْ كفي إن فَـزَعَونِي

(26)

وأضاف إليه قائلاً :
إن نصف هذه الإبل سيذهب ثمنها لطه ليدفع منه غرآمته وسيُقسم النصف الآخر بيننا حسبما أبرمناه من إتفاق ، ولا تنسوا أننا غبنا عن ديارنا كثيراً وأن الفاتنات ذوآت الحجول والخدود في إنتظارنا بلهفةٍ وشوقٍ وترقُب ، ثم أمره بأن يعد له جمله العاتي وأن يُخطر الجميع بإستئناف المسير فوراً وأخذ يُخاطبه قائلاً :


قُومْ يا القاضي فَوقْ العَاتي أَقلبْ الشَّدْ

(27)

دِيكْ تَسنَي عَقَبْنَاها وخَتَمْنَا الحَـــــــــــد

(28)

دِي بِنْسُوقَا لامْ شَلاَّخْ جَمِيلةْ الخَــــــــدْ
عَليْ بلاَجا وعُقْبَانْ السَــــــــــما اللِّنْقَدْ

(29)

ثم أستُؤنف المسير ووصل الجميع بسلآم تُرآفقهم غنيمتهم الكبيرة وأناخوا بديار ستات المجالس فبرزن إلى لقياهم في مرح وأخذن يضربن الدفوف ويغنين ويرقصن ويطلقن الزغاريد ، فأشار الطيب لنحر بعير وآخر وثالثاً ، والجميع يأكلون ويشربون ما طاب لهم ، وقد سرت في أوصالهم النشوة ، والطيب في مجلسه يرقب كل هذا الفرح ، وبدأ مستمتعاً وهو يرى إحدى الفاتنات وهي تتمايل في رقص جميل ، غير أنها توقفت فجأةً عن الرقص ، وأخذت تنظُرُ إلى خارج المكان ، وبسرعةٍ أدآرت وجهها ناحية الطيب وأتجهت إليه صارخةً وقائلة :
الفزع على الأبواب ، وأفراده يحاصرون المكان تماماً ، 
فسكت كل شئ إلا صوت الطيب الذي خاطبها بقوله :


زَوزي ونَسَّفِي الفَـــــــوقْ المَتَاقِيلْ نَدَّ

(30)

وما يَهمِكْ فَـــــــزع نَاساً كُتالُم هّـــــدَّ

(31)

بِعجبك نَبَانَا وكْتينْ الضُــــــــراعْ يتْمدَّ

(32)

وتِمي الَرقصة وعُقبان السَّـما اللِّنْهَدَّ



أصاب الفزع القوم بالوجوم تارةً وبالجلبة تارةً أُخرى ، وأختفت مظاهر الفرح لتحل محلها مظاهر الإستعداد للمقاومة والقتال ، فتبدلت المشاعر ، وساد الهرج والمرج ،
 فوقف الطيب وهو يقول بصوت مُرتفع وحاسم :


دَيَكةْ حِلَّه في الطَلْــــــعَه ما بْحُوشُــــــونَا

(33)

يا بتْ غَني يَا نَاس رُوقوا لا تداوشـــــوُنَا
حَرَّمَتَ الحــــــلآلْ اللّّيـلَة كَان يَغَشُــــــونَا



حِس الفِي الجُرَابْ هَسِع بعيطْ في الشُونَا

(34)

ثم أمر رجاله بالخروج تحت قيادته لموآجهة الفزع الذي لم يستطع أفرآدُه الصمود كثيراً أمام الطيب ومجموعته وآثروا السلامة عن طريق الهرب ليعود الطيب وفرسانه تحُفُهم رآيات النصر وسط إبتهاج عظيم أخذ الليل كله .
وعندما أنبأ الصباح عن قدومه بنور الشفق ، أومأ الطيب لجماعته ببيع الغنمية كيفما أتفق ، فكان له ما أراد ، وعندما تقاضى الثمن أجزل العطاء للنسوة ، وأعطى لكُلِ فردٍ من المجموعة ما يستحِقه حسبما قضى الإتفاق .
أخذ الطيب يشُدُ على أيدي رجاله بحرآرة ويُربِّت على أكتافهم بقوة ويلوّح بيده للجميع مودعاً وهو يستعِدُ للإنطلاق نحو مدينة القضارف على ظهر جمله العاتي والتي ما أن وصلها حتى عرّج على سوقها وأشترى جملاً حُراً لصديقه طه ثم توجه إلى مباني المحكمة ودفع الغرآمة المفروضة عليه ودلف إلى السجن بأمر الإفرآج عن صديقه طه
 وتهيأ الرجُلان للخروج عبر بوآبة الحُرية الوآسعة والسعادة تغمُرهما والطيب يُغني لصديقه قائلاً :


يَوماً في السجنْ ويَوماً رُقَادْ مِتْحَدِّرْ
ويوماً بالصَـفَايح ليْ البَحــــــرْ بِندِّرْ
القَيــدْ والحَبِسْ قَطْ للقلـــبِ مَا بْوَدِّرْ
أطرى اللِّينْه يا طه الضَرير لا تْوَدِّرْ


ثم بدأت تغزو كيان طه مشاعر مبهمة وأحاسيس غريبة لم يدُرك طعمها المعسول إلا عندما أفاق على صوت صديقه الوفي ود ضحوية وهو يترنم :


يَومْ مِجَنِبينْ مَاسْـــكِينْ نَقَيبْ الهَــــوْ

(35)

ويَومْ يَابْسِينْ فَـــــوقْ سُرُوجنْ كَـــوْ

(36)

مَبْرُومةْ الحَشََا المِيهَا التَخِينَة أُمْ بَوْ

(37)

يوم بنجيها نازلين زي صـقور الجوْ

 

 


 

 

من طرائف الهمباته

الإداري والشاعر المعروف كامل عبد الماجد أحمد زين، والذي كان معتمد بارا ... قال انه عندما كان محافظاً لمحافظة بارا، بإقليم كردفان، أراد أن يتعاطى مع ملف الهمبتة بهدوء وعقلانية وحكمة، واقترح أن تقوم محافظته بمساعدة أساطين الهمباتة في المنطقة لأداء العمرة، ليكون أداء هذه الشعيرة باباً يَلِجون به نحو التوبة، ومن ثم يعودون إلى المجتمع بفكر جديد وصالح، وبالفعل نُفِّذ الاقتراح وسافر ثمانية من الهمباتة تحت قيادة أحد كبار عُمَدْ المنطقة على نفقة المحافظة لأداء شعيرة العمرة، وبعد انتهائهم من المناسك الخاصة بالعمرة، سلكوا في طريق عودتهم طريق المدينة – جدّة، فرأى أحد المعتمرين من الهمباتة إبلاً في الطريق، فأدام النظر إليها وقال للعمدة:

"والله لولا هذا البحر لقدناهنَّ إلى دار حامد!" ثم أخذ يقول:

قدر ما اقول أتوب إبليس يلولِح راسو

يقول ليَّ لا تُّوب التابو قبلك خاسو

أفرَح وانبسِط عندَ المِدوِّر كاسو

بابَ التّوبه فاتح ما انقفل ترباسو ..!

وجاراه أحد الهمباتة الثمانية الآخرين ويُدعى الهادي قائلاً:

قدُر ما أقول أتوب إبليس يقبِّل غادي

يقول ليَّ لا تُّوب إيّاك كبير أولادي

أفرح وانبسط عِند أم قريناً نادي

باب التوبة فاتح ما انقفل يا الهادي ..!

وجاراه واحد من همباتة النافذة وقال:-

طفنا البيت كمان شفنا المدينه مناره

وتبنا من المعاصي وتبنا من اخطاره

قول للمعتمد لو كان البحر بضاره

بي ابل السعودي كنا راجعين باره

*******ه

لو كان حضر بيناتنا ود ضحويه

لا جمرات ولا عرفات ولا سلفيه

ناقة صالح لو معاهن، بنكشهن زنديه

وباب المولى فاتح وعارفنا همباتيه

وقد بدا لي أن الهمباتة يتمسكون بالهمبتة ويحنون إليها حنيناً جارفاً، حتى لو كانوا يواجهون موتاً حتمياً، فعندما أُقتيد أحدهم في خريف عام 1984م إلى غرفة الإعدام، رأى وهو في طريقه إلى حبل المشنقة السماء وقد أرعدت وامتلأت سُحُباً، فأثار ذلك في نفسه معاني شتّى، كذكرى المحبوبة وذكرى أيام الهمبتة، التي تزدهر في أيام الأمطار والخريف، وأخذ يقول:

وين دوديتي وين كبّيتي يا ام برق ام سحاباً شايلْ

شن سوّيتي في الكِتره وقليعات نايلْ

واحدين ساروا وواحدين بسوقوا الشايلْ

معاكِ سلامه يالدُّنيا ام نعيماً زايلْ.

 


عن الكاتب :

ليست هناك تعليقات

إرسال تعليق

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *